السقوط المروع
السقوط المروع

اسمه يشي بالعظمة والكرزيما والعنفوان رغم حداثة سنه، مفعم بالحيوية والنشاط، مقبل على الدنيا لا مدبر، تراه يتحرك في كل الاتجاهات بسرعة مذهلة، كأنه حصان بري جامح، وأحيانا تكون سرعته فائقة كلمح البصر، وحينما يتحدث تندفع كلماته من بين شفتيه بسرعة البرق، تسمعه حينما تسقط كلماته في صوان أذنيك، لكنك لا تكاد تتبين ما يرمي له، يبدو كأنه في عجلة دائمة من أمره، يكون إلى جوارك بحضوره العجيب والمميز وفي لحظة تجده يختفي، تنظر من حولك فتراه على مسافة بعيدة، فتتبين انه انطلق كالسهم إلى حيث لا تدري.

عرفته شابا يافعا، رايته لأول مرة منذ خمسة عشر عاما تقريبا، حينما كان في الثالثة عشر أو ربما ألرابعة عشر من عمره، كان يسكن على بعد مئات الأمتار من حيث كنت اسكن أنا، ولطالما التقيت به في الشارع المجاور أو في دكان صديقه الشاب، وأحيانا كنت احمله وشلة من أصدقاؤه الطلاب في سيارتي وأنا في طريقي متجه نحو عملي في الصباح، لمساعدتهم وتسريع وصولهم إلى مدرسة عمر بن الخطاب المجاورة ، خاصة في ألأيام التي تشتد فيها الرياح الشرقية العاصفة أو الأمطار الغربية المنهمرة بغزارة والتي تجعل من السير في الشوارع مهمة مستحيلة.

فاروق هذا هو اسمه، والصحيح أنني كنت أتوقع له النجاح والتفوق، وكنت حينما أنظر إليه بسحنته القوية، وهيئته الجذابة، وملامحه الرجولية وشعره القصير جدا، وحيويته اللامتناهيه لا أرى إلا شخصا ناجحا...

كنت أشعر بأنه سيتجاوز حتما كل مصاعب الدنيا ومشاكلها وسيندفع بقوة ألف حصان، وسيفتح بيديه كل الأبواب الموصدة، ليصعد ثم يصعد ثم يصعد إلى الأعلى نحو القمة ليتخذ له موقعا بين النجوم.

أحببت فيه كل شيء إلا سجائره وشراهته في التهامها، وخشيت عليه من سمومها اشد الخشية، وتمنيت لو استطيع دفعه للتخلي عنها، وقد حاولت ذلك باستماتة، وبكل ما أوتيت من حيل وقدرة على الإقناع. حاولت أن أخيفه من الموت الذي يسكن بين لفات التبغ ...لكنني وللأسف فشلت..

ومرت الأيام ونجح فاروق هذا في امتحان التوجيهي وتخرج من المدرسة الثانوية، وعرفت بعدها انه التحق بالكلية الجامعية، وتخرج منها بنجاح أيضا، لينضم فيما بعد لقوات الأمن الوطني...

أصبح جنديا وربما ضابطا مرموقا يعمل في مواقع بعيدة، وما عدت أراه إلا ما ندر، لكنه ظل يبدو لي دائما محتفظا بحيويته ونشاطه واندفاعه نحو العلا والمجد والنجاح...
ودارت عجلة الأيام وانقطعت عن رؤيته تماما لفترة طويلة، لكنني لم اعر ذلك اهتماما أو انتباه، لان وجوده في العسكرية كان بالنسبة لي مبررا كافيا لغيابه الطويل عن الحي، وانقطاعي عن رؤيته.

ومنذ أسبوعين فقط كنت قد انتهيت لتوي من صلاة الجمعة في المسجد المجاور لحينا المشترك، نظرت خلفي صدفة فإذا بشخص يجلس على كرسي بلاستيكي رمادي اللون، ذلك المخصص لكبار السن، يوحي منظره بالإعاقة الجسدية، وقد ذهلت لوجه الشبه بين هذا الشخص وبين فاروق ذلك الشاب الذي طالما عرفته ممتلئ بالحيوية والنشاط...
تفحصته على استحياء وتساءلت في نفسي هل يعقل أن يكون هذا فاروق الذي اعرفه!؟

دفعني فضولي للاقتراب منه لمعرفة إن كان هو فعلا فاروق، وبحركة تلقائية مددت له يدي وسلمت عليه دون أن انطق ببنت شفه... وماذا كان يمكن لي أن انطق في مثل ذلك الموقف الرهيب؟ فمد يده هو الآخر وسلم علي ولم ينطق ببنت شفه، وتركته وأنا اشعر برعب وألم على حال ذلك المسكين ربما لم اشعر بمثله من قبل وقد تصورته فاروق فعلا! فهو يشترك مع فاروقي، ذلك الفتى الذي اعرفه، في ملامحه بنسبة 99% تقريبا، ولولا شعر رأس هذا الإنسان الطويل الذي لم اعتده على رأس فاروق لقلت انه هو، هو فعلا..

تحركت على غير هدى للحظات وفي اتجاهات متعاكسة، اجتاحتني خلالها مشاعر من الحسرة لم يسبق أن شعرت بها، وربما درت حول نفسي مرات ومرات فانا لا اذكر ما حصل تحديدا، لكنني تمالكت نفسي بسرعة و ركنت في زاوية بعيدة من زوايا المسجد أراقبه في ذهول لعل من يكون برفقته يشي بشخصيته! ويجيب على المليون سؤال التي برزت فجأة في ذهني؟! وما هي إلا لحظات حتى ظهر والد فاروق صديقي الأستاذ المحامي ورأيته يقترب منه ويساعده على الوقوف ومن ثم الخروج من المسجد...فزاد ذلك المشهد من مخاوفي وشكي، وكادت روحي أن تقفز مني لشدة الألم الذي أصابني، وكدت أن أسقط على الأرض من هول الصدمة لهذا الذي كنت أرى، لكنني لعنت إبليس وقلت في نفسي ربما أن هذا أخ لفاروق يشبهه إن لم يكن تؤمه ..فلا بد لي أن أتأكد قبل أن اقتل نفسي حسرة وكمدا وألما على مصير فاروق وما آل إليه حاله...

في الطريق إلى المنزل التقيت بجار لنا فسألته أن كان لفاروق أخوة؟ فرد بأن من شاهدته هو فاروق فعلا! وأعلمني كيف انه أصيب مؤخرا بالمرض الخبيث في رأسه، ودمدم في نفسه اللهم عافينا، وكيف انه سافر إلى الولايات المتحدة للعلاج، لكن استئصال جزء من دماغه تركه على ذلك الحال....

تأكدت مخاوفي واشتعل قلبي ألما وحسرة على ذلك الشاب الذي زحف المرض إلي دماغه فجأة فشل حركته وعطل لسانه جزئيا وصار قاب قوسين أو أدنى من القبر..صار اقرب إلى الموت وهو الذي كان ممتلئ بالحيوية والحياة..

لكن هذا الألم الذي اجتاحني لا يقارن بذلك الألم الذي أحسسته في الجمعة التالية...فقد ذهبت إلى نفس المسجد وتصادف وصولي نزول فاروق من سيارة والده عند الباب الأمامي للمسجد وسار لوحده باتجاه المسجد...كان يسير متثاقلا وفاقدا لتوازنه حاله حال من يصيبه ما أصابه...رأيته يمر من بين سيارتين واحدة زرقاء والأخرى حمراء وفكرت أن أتجنبه، وأجنب نفسي الإحراج فلم اعرف كيف أتصرف معه أو ماذا أقول له وقد عرفت انه فعلا فاروق...


وكدت أن أغير اتجاهي وأسير من شارع جانبي لأدخل المسجد من بابه الخلفي مبتعدا عنه، وما هي إلا لحظات حتى شاهدته يفقد توازنه تماما حينما حاول رفع قدمه اليمنى إلى حافة الرصيف الذي لا يزيد ارتفاعه عن 10 سنتيمترات ، فمال جسده نحو الخلف وفقد توازنه...وما هي إلا لحظة حتى هوى إلى الأرض..رأيته وهو يهوي يحاول التشبث باستماتة في أجنحة السيارات الواقفة من هنا وهناك، لكنني سمعت رأسه يرتطم بقوة وبصوت يخرم طبلة الإذن ، ربما ارتطم رأسه في السيارة وربما في الأرض.. ولا بد أنني كنت قد أقفلت عيوني عند تلك اللحظة المرعبة لكي لا أشاهده وهو يسقط..
فكرت جديا ولأقل من ثانية أن ابتعد عنه...فكرت أن اهرب منه ومن ذلك الموقف الرهيب فكرت أن أتجنبه...لقد ارتعبت لهول المنظر وأحسست حينها وكأنني أشاهد كوكبا يهوي من السماء إلى باطن الأرض...

لكنني وجدت نفسي اندفع نحوه بحركة جنونية سريعة لا إرادية ولا واعية...مددت له يدي والتقطه عن الأرض...كان ممدا هناك مثل طفل صغير لم يعتد المشي...تشبث بيدي.. رفعته عن الأرض.. أمسكت به وسرت إلى جواره..وكانت عيون الحشد الداخل إلى المسجد ترمقنا وقد فاضت حسرة وآلما...التصق بي وكانت يده تضغط على يدي.. وكأنه يتحدث من خلالها ويحكي لي قصه ألمه.. حاولت تخليص يدي والابتعاد عنه قليلا لكنه تشبث بها حتى وصلنا إلى داخل المسجد...أجلسته على كرسي وابتعدت عنه قليلا وجسمي لا يزال يرتعد من هول الموقف...

حاولت التماسك...دفعت نفسي للتركيز في كلام الخطيب لعله يقول كلاما يهدئ من روعي...لكنني لا اذكر أنني سمعت منه سوى كلماته التي شبه فيها رحلة الحج برحلة الحياة والموت..وهو الذي اعتاد أن يطيل في خطبه...ولا اعرف حقا إن كان قد قصر موعظته هذه المرة أم أنني فقدت في تلك اللحظات إحساسي بالزمن...

تعجلت الخروج من المسجد مبتعدا عن فاروق ووالده...وكنت اشعر أثناء خروجي بأن قلبي هو الذي سقط مني سقوطا مروعا...في بحر من الألم.
السقوط المروع




rwm hgsr,' hglv,u